:السؤال 26
«أريد أن أطرح سؤالًا في مسألة الروح القدس. فالأورثوذوكس يفهمونه بشكلٍ يختلف عن الكاثوليك: يقول الكاثوليك إنّ الروح القدس ينبثق من الآب والابن، ويقول الأورثوذوكس إنّه ينبثق من الآب فقط. وقد كان لهذا الاعتقاد دورٌ هامّ في أثناء الجدال حول العقيدة الصحيحة. يقول الأورثوذوكس إنّهم يستندون إلى الإنجيل: «ومَتى جاءَ المُؤَيِّدُ الَّذي أُرسِلُه إِلَيكُم مِن لَدُنِ الآب رُوحُ الحَقِّ المُنبَثِقُ مِنَ الآب فهُو يَشهَدُ لي». كيف تشرح تأكيد الإنجيل هذا؟».
الجواب: ما المقصود: الروح؟ الروح القدس؟ أو حتّى الروح القدس كأقنوم إلهيّ؟ في الأصل، الروح تعني في لغة الكتاب المقدَّس هواء، ريح، عاصفة ثم نسمة حياة. فروح الله هو إذًا عاصفة ونسمة حياة؛ فهو الذي يخلق، يحمل ويبقي ويحفظ كلّ شيء في الوجود. وهو خصوصًا مَن يعمل في التاريخ ويخلق من جديد. في العهد القديم يعمل روح الله خاصّة في الأنبياء. ففي قانون الإيمان نعترف بأنّ الروح هو «الناطق بالأنبياء». كما يأمل العهد القديم أن يعمل الروح القدس في نهاية الأزمنة على إفاضة روحه فيتجدد به كل شيء (راجع يوئيل 3: 1-2).
يعتبر العهد الجديد أنّ هذا التجدّد الإسكاتولوجيّ (في آخر الأزمنة) قد أتى بيسوع المسيح. فنشاطه وعمله كانا مصحوبَين منذ البداية بقوّة الروح القدس: في أثناء المعمودية على يد يوحنا (راجع مرقس 1: 10)، وفي كرازته (راجع لوقا 4: 18)، وفي صراعه مع الشرير (راجع متّى 4: 1 ; 12: 28)، وفي أثناء تقدمته لذاته على الصليب (عبرانيّون 9: 14) وفي قيامته (راجع رومة 1: 4 ; 8: 11) فاسم «المسيح» كان في البداية لقبًا: يسوع هو الممسوح من الروح ، المسيح. ولكنّ يسوع المسيح ليس حاملاً للروح القدس على غرار الأنبياء، بل يملك روح الله في امتلاء لا قياس له. وحين قام من الأموات، أصبح ينبوع روح إلهيّ، فأعطاه للرسل كعطيّة من الله وأرسله لكنيسته في العنصرة (راجع أعمال الرسل 2: 32-33).
إنّ مهمّة الروح القدس هي أن يذكّر بما علّمه المسيح وعمله، فيقودنا بذلك إلى الحقيقة الكاملة (راجع يوحنّا 14: 26; 16: 13-14). بواسطته يبقى المسيح حاضرًا نهائيًّا في كنيسته وفي العالم (راجع 2 كونثُس 3: 17). لذلك يشار إلى الروح القدس بأنّه روح يسوع المسيح (راجع رومة 8: 9 ; فيليبي 1: 19) وأيضًا روح الابن (راجع غلاطية 4: 6) ويسمّى كذلك روح الإيمان (2 كورنثُس 4: 13). بفضله نستطيع أن نعترف بيسوع المسيح ربًّا (راجع 1 كورنثُس 12: 3) ونصلّي قائلين «أبّا أيُّها الآب» (رومة 8: 15 ; راجع غلاطية 4: 6). الروح القدس هو عطيّة الحياة الجديدة. الآب والابن يرسلانه لنا. فيهبنا الله ذاته بإعطائنا روحه. وبعطيّة الروح القدس ندخل في شراكةٍ مع الله، نشارك في حياته، ونصبح أبناء له (راجع رومة 8: 14; غلاطية 4: 6). وهذا ليس ممكنًا إلّا لأنّ الروح القدس ليس عطيّة مخلوقة بل عطيّة إلهيّة يتصل الله بنا من خلالها. «لأَنَّ مَحَبَّةَ اللّه أُفيضَت في قُلوبِنا بِالرُّوحَ القُدُسِ الَّذي وُهِبَ لَنا» (رومة 5: 5).
غير أنّ الروح القدس ليس فقط عطيّة بل معطي، وليس فقط قوّة تمكّن الآخر من أن يفعل بل هو بذاته فاعل. إنّه ليس شيئًا بل شخصًا. يوزّع عطاياه كما يرضى هو (راجع 1 كورنثُس 12: 11) يُعلّم ويُذّكر (راجع يوحنّا 14: 26) يتكلّم ويصلّي (راجع رومة 8: 26 -27) نستطيع إحزانه (راجع أفسس 4: 30).
كانت هذه الأسئلة مصدر خلافات خصوصًا في القرن الرابع. كان كثيرون يعتقدون أنّ الروح القدس لم يكن سوى خادمًا خاضعًا للابن، نوع من الملائكة. فعارض آباء الكنيسة الثلاثة الكبار، باسيليوس وغريغوريوس النزينزي وغريغوريوس النيصي هذا الاعتقاد، وهذه هي حججهم: لو لم يكن الروح القدس من جوهر إلهيّ كالآب والابن لما استطاع أن يدخلنا في شراكة مع الله وأن يشركنا في حياته. بفضل هؤلاء الآباء استطاعت الكنيسة أن تعترف في المجمع المسكونيّ الثاني المنعقد بالقسطنطينية في السنة 381، أنّ الروح القدس هو ربّ، أي ذا طبيعة إلهيّة. إنّه ليس عطية فقط بل معطي للحياة ويستحقّ العبادة والتمجيد الإلهيّ مع الآب والابن. ويُعبَّر عن هذا الإيمان التعبير في قانون الإيمان:
«نؤمن بالروح القدس، الربّ المحيي، المنبثق من الآب والابن، مسجودَ له وممجَّد ...»
صيغة «ومن الإبن»، الـ Filioque الشهيرة (من اللاتينية «ومن الإبن») لم تكن موجودة في قانون الإيمان القسطنطينيّ الأصليّ. لقد رأت هذه الصيغة النور كصيغة عقائديّة في إسبانيا بين القرنين الخامس والسابع، ولكنّها لم تدخل في إعلان ايمان الكنيسة الكاثوليكيّة إلّا في القرن الحادي عشر. وحتّى يومنا هذا تشكّل هذه الصيغة اختلافًا مع الكنيسة الأرثوذكسيّة. فهم يستعملون صيغة «من الآب بالابن» إذ يريدون القول بشكل أوضح أنّ الآب وحده هو المصدر والأصل.
إنّ الكنيسة الكاثوليكيّة وباقي الكنائس الغربيّة تريد التركيز بقوّة على أنّ الابن هو من ذات طبيعة الآب وهو مساوِ له في الألوهة. ويتّفق الشرق والغرب على هذه الغاية الأساسيّة. ولكنّهم يستخدمون مفاهيم لاهوتيّة وطرائق تفكير مختلفة. وتتكلّم الكنيسة الكاثوليكيّة هنا أيضًا على الحقّ بالوحدة ضمن التنوّع وليس بالاختلاف الّذي يؤدّي إلى انشقاق.
إنّ إعلان الإيمان هذا الّذي يوحّد الشرق والغرب يعني: الروح القدس ليس فقط عطيّة من عطايا الله بل هو عطيّة الله في شخص. لأنّ حياة الإنسان وسرّه لا يجدان اكتمالهما إلّا في المشاركة بسرّ الله وحياته. لكنّ الروح القدس ليس فقط الكائن – المعطي لله بل أيضًا المعطي الإلهيّ لهذه العطيّة، الواهب الحياة. كما أنّ الآب هو أصل الابن ومصدره، وكلّ ما هو عليه يعطيه للابن، كذلك الآب والابن أو الآب بالابن ينقلان ملء الحياة وألوهيّتهما إلى الروح القدس ويعطيانه معًا. وكما أنّ الروح القدس هو تقبّل للآب والابن، كذلك هو بالنسبة إلينا ينبوع متدفّق وواهب للحياة. هو القوّة الفعّالة والخلّاقة للحياة الجديدة والتحوّل الإسخاتولوجيّ للإنسان والعالم.
إنّ النشيد المعروف: «تعال أيّها الروح الخالق»، الّذي يعود إلى القرن التاسع، يشرح بوضوح ما تعنيه الحياة الممنوحة بالروح القدس:
«تعال أيّها الروح القدس، خالق الحياة، املأنا من قوّتك، عملك الخلّاق دعانا إلى الوجود. أعطِنا الآن الروح الإلهيّ ... منك تجري الحياة، النور والدفء، تعطينا القوّة والشجاعة في ضعفنا».
ما من مجمع مسكونيّ، ولا تعليم كنسيّ، ولا لاهوتيّ يستطيع أن يعبّر بطريقة أجمل من هذا النشيد عمّا نريد أن نقوله عندما نعترف بأنّنا نؤمن بالروح القدس، ربّ، ومعطي الحياة.