التعددية الدينية وحرية الدين
أولا: تساؤلات المسلمين
لماذا تعدد الأديان والطبيعة البشرية واحدة ؟
تزعم كل ديانة – وأولها المسيحية – أنها ديانة كونية. كيف تكون مختلف الأديان كلها كونية؟ إن كانت إحدى الأديان كونية، فهذا يعني إن الأديان الأخرى لا تملك إلا جزءا من الحقيقة.
أليس من المحبب أن يرى الإنسان الدين الكوني على أنه حصيلة الأديان جمعاء؟
تتحدث الكنيسة في أيامنا هذه عن حرية الضمير،أي حرية تغيير الدين، خلافا لعادتها. ففي الماضي، استغلت الكنيسة القوى الاستعمارية والإمبريالية لمصلحتها. ألا تدافع الكنيسة اليوم عن حرية الدين فقط لأنها عاجزة عن تسيير الأمور بحسب رغبتها؟
لا عيب في حرية الدين من حيث المبدأ، لكن هل يسمح للناس أن يديروا ظهورهم للدين الحق ويعتنقوا دينا آخرا؟ ألا يشكل مبدأ حرية الدين خطرا يحدق بالأديان؟
كيف يقرأ أي شخص القرآن ولا يصبح مسلما؟
ثانيا: نظرة المسلمين
النظرة الإجمالية
الإسلام هو الدين الحق والكامل. وحده باق بين الأديان. احتضن كل أمر ذات قيمة في الأديان الأخرى. يندهش بالتالي المسلمون التقليديون من بقاء اليهود والمسيحيون على دينهم حتى اليوم لأنه بظهور الإسلام فقدت اليهودية والمسيحية علة وجودهما. فهاتان الديانتان ذات طبيعة مؤقتة ولا تحتضنان، في أفضل الأحوال، إلا جزءا من الحقيقة. جاءتا لجماعات بشرية محدودة. لا قيمة لأي ديانة عدا الإسلام لأنه الدين الكوني الوحيد.
الحروب الدينية واقع تاريخي. وقعت في الماضي بين العالمين الإسلامي والمسيحي، وبين الكاثوليك والبروتستانت. إلى اليوم نجد حروبا قائمة باسم الدين...
يفترض مسلمون كثر، وجود تعاون أكيد بين الامبريالية والمسيحية، وبين الاستعمار والقومية.
لا يجوز أن يكون تغيير الديانة حقا لأي إنسان. يولد هذا الأخير عضوا في جماعة دينية معينة، وعليه البقاء فيها لأن الدين عنصر أساسي من هويته الشخصية والجماعية والقومية. واعتناق الإسلام هو الاستثناء الوحيد بطبيعة الحال، لأنه يعني الدخول إلى مجتمع وبنية يحلان محل شتى الهويات الأخرى فتمسي غير ضرورية.
النظرة المفصلة
في القرآن رغبة عارمة بتوحيد الناس كافة ضمن جماعة دينية واحدة هي "الأمة" وفقا لمشيئة الله منذ الأزل. لكن سرعان ما انقسم الناس إلى ديانات متعددة، يزعم كل منها أنه وحده الدين الحق (راجع: سورة يونس:19، سورة هود:118، سورة الأنبياء:92 وسورة الزخرف:33).
وحده الإسلام الدين الخاتم، الكامل، الحصري والكوني. دعا إليه محمد، "خاتم الأنبياء" على أنه السبيل الوحيد للخلاص (راجع: سورة آل عمران:19، 73، 85، 110، سورة المائدة:3، سورة التوبة:33، سورة النساء:28، سورة الصف:9): )هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ( (سورة التوبة:33 وقارن سورة الصف:19). من المنطقي بالتالي أن يكون الإسلام دعوة للبشرية جمعاء (سورة الأعراف:158، سورة سبأ:28). أما الأديان الأخرى، فمنها الباطل (مثل الأديان الوثنية والشركية) ومنها المؤقت أو الصحيح جزئيا (مثل أديان أهل الكتاب، اليهودية والمسيحية). لا بد للإسلام، هذا الدين الفريد، أن ينتشر في كل مكان عن طريق الدعوة (ومرادفها "التبشير" في المسيحية) بالسلم أو بالسيف إذا اقتضت الحال. تاريخيا، بدأ الإسلام بالدعوة السلمية والثبات في وجه الاضطهاد المكي، حمل بعدها المسلمون السيف في المدينة. بعد وفاة النبي شقت الفتوحات الكبرى الطريق أمام انتشار الإسلام في بلدان عديدة عبر العالم. وفي القرون التالية، خاض المسلمون حروبا عديدة عدوانا أو دفاعا عن النفس، باسم الإسلام. وعلى العموم تحول السكان إلى الإسلام تدريجيا وسلميا، سواء في المناطق التي فتحها المسلمون وخارجها. وقد لعب التجار والجماعات الإسلامية دورا كبيرا في ذلك. لا بد كذلك من عدم التقليل من شأن الضغوط الاجتماعية على غير المسلمين، خاصة في المجتمعات ذات الأغلبية السكانية المسلمة. يشدد المدافعون المعاصرون عن الإسلام على انتشار هذا الدين بطريقة سليمة حصرا، لكن يتجاهلون الحروب التي تمت تحت لواء الإسلام (في سبيل الله). بالكاد يعترفون بوقوع هذه الحروب وحتى لو فعلوا، فهم يزعمون أنها حصلت دفاعا عن النفس وحسب.
لكل إنسان حرية الإيمان أو عدم الإيمان (سورة يونس:40-45، سورة الإسراء:84،89،107). هذا مبدأ يدعو إليه القرآن إضافة إلى المبدأ الآخر الشائع التداول على لسان الناس: "لا إكراه في الدين" (سورة البقرة: 256). لكن يفيد القرآن نفسه بوضوح إن على الوثنيين والمشركين الإيمان أو الموت (سورة التوبة:5، سورة الفتح:16). أما أهل الكتاب (اليهود والنصارى)، فقد مُنحوا وضعا خاصا يضمن حمايتهم: هم "أهل الذمة". دينهم خاطئ وللإسلام أفضلية عليه، لكن يحق لهم البقاء عليه والاحتفاظ بنظامهم وشعائرهم، مقابل البقاء صغارا في المجتمع (عن يد وهم صاغرون [سورة التوبة:29]) ودفع ضريبة خاصة: الجزية. أما المسلم الذي ينكر دينه باعتناق دين آخر أو اقتراف أفعال مضادة للدين أو التفوه بأقوال تتناقض صراحة مع الإسلام، فيدينه الله (سورة آل عمران:85-90، سورة النساء:137، سورة النحل:108) ويُعاقب بالموت (استنادا إلى سورة البقرة:217، وفقا لتفسيرات الفقهاء واستنادا إلى أحاديث نبوية عديدة).
مؤخرا، اعترفت دول إسلامية عديدة، عبر ممثليها في مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، بمبدأ حرية الدين كما ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (المادة 18 التي تؤكد على حرية الفكر والضمير والدين)، مع تحفظ يمنع على أي إنسان الخروج عن الدين الحق (الإسلام).
متأثرين بالسياق الثقافي المعاصر وبالتعددية الأيديولوجية، انتهى العديد من المسلمين إلى تبني الموقف الشائع في الغرب اليوم، الذي يسمح لأي إنسان إتباع ما يمليه عليه ضميره واختيار الدين الذي يناسبه. يرى مسلمون آخرون إن جميع الأديان متساوية، مضيفين إن بين الإسلام والمسيحية تشابه عميق، لا بل شِبه تطابق من حيث المحتوى. ورد هذا الكلام على لسان البعض، لكن لا يجدر فهمه على أنه مزيج بين الأديان أو لا مبالاة تجاه الدين، بل برهان أخوة بين أولئك الذين يختارون العيش استنادا إلى الإيمان بالله. يؤيد بعض المسلمين فكرة ديانة كونية واحدة، حتى لو أدى هذا إلى نوع من المزيج بين الأديان على الصعيد العملي. أخيرا، يرى البعض الآخر إن على الأديان – وفي صدارتها الإسلام والمسيحية – المباشرة بحوار حقيقي، مقتربة من بعضها البعض بصفتها أخوة وداعية الله تعالى أن يهديها على درب الحوار بحسب ما يشاء. أما الهدف النهائي، فهو أن نشهد على إيماننا بالله في هذا العالم.
ثالثا: نظرة المسيحيين
بشر المسيح بالإنجيل (البشرى)، وهو وحي من الله، أب الناس أجمعين، المليء بالرأفة والمحبة اللامتناهية، خاصة تجاه الضعفاء والفقراء والخطاة والمهمشين والمقهورين. شاء المسيح أن يجمع شعبه وجميع شعوب الأرض في محبة الله. الجميع، وخاصة "الفقراء"، مدعوون إلى ملكوت الله، في رحاب محبة الله.
يشهد العهد الجديد لإيمان الكنيسة الرسولية في بداية عهدها. ويرى يسوع المسيح، كلمة الله الحي، على أنه وحي الله الأعلى والخاتم والنهائي. من خلال يسوع المسيح، خاطب الله شعوب الأرض أجمعين، مما يعني أن المسيحية في جوهرها ديانة كونية. وتظهر الوقائع التاريخية أن الكنيسة فهمت الطابع الكوني لرسالتها منذ البدء فهي جامعة، وعرفت أنها خادمة محبة لله الشاملة التي تصالح العالم (الرسالة الثانية إلى أهل قورنتس 5: 18-21، الرسالة إلى أهل أفسس2: 11-12).
تاريخيا، نشأت المسيحية وانتشرت بفضل الإيمان الناشط للرسل والأجيال المسيحية الأولى. نجحوا في التبشير والشهادة على إيمانهم رغم الاضطهاد، وفي بعض الأحيان بفضله. في 313م، صدر مرسوم ميلانو الذي ضمن الحرية الدينية الكاملة للكنيسة، مما سمح لها بأن تغدو دين الإمبراطورية الرسمي. تورطت الكنيسة في صراعات عنيفة متعددة، وتحملت المسؤولية في مطاردة الهراطقة وممارسة الضغوط الاجتماعية عليهم. كانت تلك الصراعات ذات طبيعة سياسية لكنها قدمت على أنها مسيحية لحشد التأييد لها.
أما الحروب الصليبية، فهي حالة مختلفة تماما، لأن وراءها بوضوح دوافع دينية (تحرير قبر المسيح) أساسا. وكانت تعرف بحروب الفرنجة سابقًا! لا ينبغي أن يختلط الأمر علينا بين التبشير بالمسيحية والاستعمار. في بعض الأحيان، كان المبشرون يتبعون المستعمرين. وفي بعض الأحيان الأخرى، وصلوا قبلهم. وهناك حالات كان المبشرون يعارضون المستعمرين.
تغير تقييم المسيحية للأديان الأخرى بناءا على الإيمان المسيحي ومروره بمراحل تطويرية عديدة، من يوستنيانوس (المتوفى عام 165م) الذي تحدث عن البذور الروحية التي تنتظر في كل إنسان كلمة الله لتعطي ثمارا، وصولا إلى موقف القديس أغسطينوس (هيبون؛ 354-430) الذي كتب بجدلية بالغة الدهاء فرأى رجسا حتى في فضائل الوثنين، ومرورا بالنظريات القائلة بأن ديانات غير المؤمنين لا تخلو من إيمان قويم وبأنهم لن يُدانوا في الآخرة. مؤخرا، بدأ بعض اللاهوتيين يعلّمون أن في إيمان الشعوب وثقافاتها وقيمها الأخلاقية، عناصر تنتظر اكتمالها وتوضيحها على ضوء تجسد الله في يسوع المسيح. هذه هي الرؤيا المسيطرة بين اللاهوتيين اليوم.
وضمن المحاولات الحديثة الهادفة إلى تطوير لاهوت مناسب بشأن الأديان غير المسيحية، هناك محاولتان تستحقان انتباهنا، وخاصة الثانية منهما:
أ.التركيز على الفرق بين الإيمان والدين: تطورت هذه النظرية أساسا على يد اللاهوتيين البروتستانت كارل بارث (1886-1968) وديترخت بونهوفر (1906-1945). ثم تبناها المفكرون الكاثوليكيون، مثل جان دانيلو (1905-1974)، بعد تعديلها. وفقا لهذه النظرية، يُفهم الدين على أنه سعي الإنسان بالفطرة نحو الله. أما الأديان فليست إلا التعبير الجماعي عن الإيمان، وتُترجم إلى طقوس وشعائر وممارسات إيمانية الخ... ووفقا لنظرية بارث الأولى، ليس الدين إلا منتجا بشريا ومن الخطأ إعطاؤه الأولوية على الإيمان في الكلمة الموحي بها. أما دانيلو، فله تقييم أكثر إيجابية: يرى أن لكل جماعة بشرية وحضارة، دينها الخاص، حتى إنه يجوز الكلام عن الدين الكلتي، الجرماني، المتوسطي (البحر المتوسط)، الأفريقي والهندي. يمكن كذلك إيجاد خصائص مشتركة بين المسيحية وجميع هذه الديانات.
من ناحية أخرى، الإيمان هو استجابة الإنسان لله وكلمته، إذ هو من يبادر في ملاقاة خليقته ومساءلتها. وإذا كان الدين هو حركة الروح البشرية نحو الله، فالإيمان إذا هو استجابة الإنسان لكلمة الله الواصلة إليه عن طريق الوحي. بالنسبة لدانيلو، لا بد للإيمان بيسوع المسيح أن "يتجسد" في كل ديانة. وبما أن الإيمان متصل في سياقات وبيئات مختلفة بالأديان والثقافات المنبثقة عنها، فهو يحوِّل طقوسها وشريعتها وتقاليدها مضفيا عليها معنى جديدا. ينتهي دانيلو إلى القول إن قبول الإنسان للإيمان المسيحي لا يعني "الانتقال من دين إلى آخر"، بل تغير الديانة الأساسية وتحولها على ضوء الإيمان المسيحي.
ب.التمييز بين الوحي العام والوحي الخاص: تطورت هذه المقاربة الجديدة أساسا على يد كارل راهنر (1904-1984). أعتمد بعدها مؤلفون عديدون جوانبها الأساسية. خلاصة هذه النظرية أن الله لم يقطع يوما تواصله بالإنسان منذ ظهور هذا الأخير على هذه الأرض. والدليل على هذا الوحي "العام" ما ورد في الكتاب المقدس، من قصص آدم ونوح، وسفر الحكمة ورسالة بولس إلى أهل روما (19:1). تعتبر بالتالي الأديان الكبرى غير المسيحية، دلالة على نزول هذا الوحي العام. لكن أوحيت كذلك كلمة الله بوحي خاص في تاريخ شعب الله المختار بدءا بإبراهيم، والبطاركة والآباء والأنبياء، وصولا "في تلـك الأيام الأخيرة" إلى ظهورها عبر يسوع المسيح، كلمة الله الذي صار جسدا والذي به اكتمل الوحي. وبهذا الوحي الخاص يتواصل الله بذاته (مما يحدث أيضا في الوحي العام) ويمكن أن نتأمل به عبر التاريخ، إذ له وجه بشري: لقد قال يسوع: "مَن رآني رأَى الآب" (يوحنا 14:9). وعلى ضوء هذا الوحي، يبرز حضور الله في جميع الأديان.
لكن حتى وحي الله من خلال المسيح، لن تنكشف معانيه الكاملة إلا عند مجيء يسوع الثاني في آخر الزمان. ويتطلع التبشير المسيحي وحوار الكنيسة مع الأديان نحو هذا الهدف. وفي غضون ذلك، يساهم تاريخ الأديان (من مسيحية وغيرها) في "كشف معنى الوحي". وإن نظرنا إلى الأمر على هذا النحو، فالاعتراف بالمسيح على أنه وحي الله في إنسان، لا يعني البتة أنه يجدر الحط من الأديان الأخرى، أو نكران وجود عبادة فعلية لله فيها، أو أن لها صلة بالله. بل يجدر النظر إلى الوقت الحالي على أنه دعوة للاعتراف بالأديان الأخرى على أنها مساهمات مختلفة لكشف وحي الله كل من جهته. يغتني المسيحيون بالتالي بفضل الحوار مع الأديان الأخرى.
يستحيل على المسيحية أن تكون مخلصة للإنجيل إن لم تفهمه على أنه رسالة حب ومصالحة. رفض يسوع بحزم أن يكون "المسيح السياسي" الذي كان شعبه ينتظره. اختار الموت على الانخراط في ثورة سياسية. قرر المسامحة عوضا عن السعي وراء القوة والانتقام. لاحقا، نتيجة للتأييد الذي حصلت عليه من الإمبراطور قسطنطين الكبير (حكم بين 306-337)، دخلت الكنيسة في علاقة وثيقة مع الدولة، حتى أنها في بعض الأحيان دعت إلى الحروب وبررتها وباركتها. لكن خلال العقود المنصرمة، حاول البابوات والكنيسة اغتنام كل فرصة سانحة لتعزيز السلام والعدالة. طبعا تعترف الكنيسة بحق الأفراد والأمم في الدفاع عن النفس، إضافة إلى حقها – بل واجبها في بعض الأحيان- في معارضة أنظمة الحكم الغاشمة. لكن على المسيحيين، أينما وجدوا، تفضيل النشاطات اللاعنفية (ذات النتائج العالية الفعالية)، والمساهمة في تخطي الأيديولوجيات القومية، الدينية التعصبية والخاصة بالحكومات الدينية، مع العنف الكامن في طياتها.
الإيمان هبة الله للإنسان، وله حرية قبولها أو رفضها. لكن التاريخ حافل بحالات "اهتداء" إلى المسيحية بالقوة والإكراه (مثل، شارلمان مع الشعوب السكسونية)، أو حالات "الاهتداء" لأسباب اجتماعية وبشرية محضة أو بتأثير قوي منها.
لقرون عديدة، كانت وجهة النظر المهيمنة في الكنيسة أن أفضل نظام هو إعلان المسيحية دين الدولة مما لا يترك "مكانا للخطأ". صحيح أن الكنيسة طالبت منذ البداية بالحرية لكي يتمكن كل إنسان من تقبل الإيمان المسيحي من دون عائق، لكنها أبدت تحفظات كثيرة عندما تعلق الأمر بحرية المسيحي بتفسير إيمانه خارج سلطة الكنيسة، أو التخلي عن الديانة المسيحية، أو اعتناق دين آخر (أنظر: محاكم التفتيش الكنسية).
منذ المجمع الفاتيكاني الثاني، وإعلان حرية الدين الصادر عنه، أضحت نظرة الكنيسة لهذه المسألة واضحة وضوح النهار، أقله على المستوى الرسمي: الحرية الدينية من حقوق الإنسان الأساسية والمطلقة. أما طريقة التبشير، فلا بد أن تتسم باحترام قيمة الآخر وآرائه. على التبشير أن يأتي على شكل شهادة (قدوة) وعلاقة حوارية. وبناء على جوهر الإيمان المسيحي، يمكن عرض الإيمان على أنه دعوة للآخرين (الرسالة الثانية إلى أهل قورنتس 20:5): لا بد من عرض الدين على الغير ولا فرضه. يبقى كل إنسان حرا ومسؤولا عن خياراته الشخصية أمام الله وبحسب ما يمليه ضميره عليه.
رابعا: أجوبة المسيحيين
التعددية الدينية
التعددية الدينية لغز. لها صلة باحترام الله لحرية الإنسان من جهة، وبالشروط الطبيعية لتطور الإنسان الديني والثقافي من جهة أخرى. عاشت الجماعات البشرية البارزة على مدى آلاف السنين في عزلة عن بعضها البعض، سواء في أوروبا أو آسيا أو أمريكا. أما اليوم، فيتسم العالم بتعدد وسائل الاتصال وبشعور من الاعتماد المتبادل على بعضنا البعض. طبعا لا تزال التوترات والصراعات العنيفة قائمة بين المجموعات البشرية. لا بد أن تناط الأديان بدور مهم في هذا الصدد: إذ أنها تتشارك بمسؤولية تحقيق عدالة أكبر وتناغم أفضل في العلاقات بين الأمم والتكتلات الاقتصادية والتجمعات الثقافية في عالمنا هذا. ينبغي تجنب كل صراع بين الأديان - شأن الخصومات الجدلية، والتبشير المفرط من دون احترام أحاسيس الآخر. كذلك الأمر بالنسبة لدمج الأديان الذي يدمر أصالة الدين وطابعه الفريد من نوعه. وحده الحوار إلى جانب التعلم المستمر عن الآخر، يمكّن الأديان من الانفتاح على بعضها البعض، فيتعلم الناس العيش معا محترمين تعدديتهم، ومن فهم الآخر والتعرف إليه بصورة أفضل. ليست هذه محاولة لرفض الاختلاف، بل محاولة لفهمه بعمق. قطعا لا يحول الحوار دون شهادة الإنسان لإيمانه ودعوة الآخرين إلى الاعتراف بما يعتبره هو حقيقيا وذات قيمة. على المؤمنين من شتى الأديان أن يكشفوا القواسم المشتركة التي يشهدون عليها جميعا، مع السعي معا بصدق نحو الوحدة، بتواضع وانصياع لمشيئة الله.
تعددية الأديان الكونية
كل من الإسلام والمسيحية يدعي بأنه دين كوني (صالح لكل زمان ومكان). ما من سبب يدعو للتخلي عن هذه القناعة. الأمر رهن الأساليب المعتمدة لتعبير كل ديانة عن دعوتها والعيش بحسبها. لا مكان اليوم للمقاربات المرتكزة حصرا على الطموحات الفردية أو الجماعية: العنف، الحرب، الإكراه على أشكاله من معلنة أو خفية. فالسبيل الوحيد المقبول لدى الله والإنسان لكي يعترف الآخرون بالقيم التي نجد فيها حقيقة، هي الشهادة على الإيمان الحي، والحوار الصريح، إضافة إلى احترام حرية القرار استنادا إلى الضمير.
الأديان ومسؤوليتها في الحرب
لا بد من الاعتراف بما يلي: تحملت الأديان في الماضي مسؤولية الحروب، أو أقله شاركت في اندلاعها، ولا يسعنا القول إنها صفحة مطوية من تاريخ الأديان. في الصورة العامة لعالمنا، نور وظلمة في آن واحد. ففي أكثر من مناسبة عبر التاريخ، حال العامل الديني دون وقوع العنف أو أقله خفف من وطأته. يقدَم مثالا على ذلك ما عرف بـ"هدنة الله" في العصور الوسطى، أو الشروط الصعبة التي أناطها التشريع الإسلامي بالحرب العادلة، أو رعاية أسرى الحرب والضحايا المدنيين التي دعت إليها الأديان. أضف إلى ذلك أن السبب الرئيسي وراء حروب الدين المزعومة، لم يكن عداوة بين الأديان ذاتها، بل سعي الأفراد والجماعات (الإمبراطوريات والسلالات الحاكمة والأوطان) وراء القوة حيث استغل الدين في خدمة الطموح الشخصي والجماعي. وأخيرا، وبصدد الصراعات المعاصرة، من الأفضل إلقاء نظرة انتقادية على المعلومات والأخبار، قبل الجزم بسذاجة أن لها دوافع دينية. والواقع أنه في معظم هذه الحالات، لم تشعل المرجعيات الدينية الصراع، بل انكبت على الالتزام بالصلح والسلام.
الحرية الدينية
الحرية الدينية من حقوق الإنسان غير القابلة للتصرف. إلغاؤها أو تقييدها خداع وافتراء على الله والإنسانية. المسؤول الأول عن انتهاكات حقوق الإنسان والدين في الماضي والحاضر هو الجمع بين الدين والدولة (أو ما يحدث اليوم من اتحاد بين القومية والدولة، أو بين الإلحاد الاشتراكي الرأسمالي العملي مع جهاز الدولة). من حق الأديان أن تتحرر من مثل هذه النظم، وأن تكافح لإرساء حرية الدين على الميدان.
تلتزم كل الشعوب، المسيحية منها والمسلمة، بالعيش بتضامن كل مع جماعته الدينية أو طائفته (أكانت الأمة أو الكنيسة أو أي جماعة دينية أخرى)، وبالسعي نحو سلامها ورفاهها. لا بد من إظهار كامل الاحترام للقرارات الحرة التي يمليها ضمير صاف (ضمير يسعى بالفعل إلى الحقيقة) حول الإيمان والانتماء الديني. ويبقى الكشف عن مكنون الصدور شأنا إلهيا خالصا. وحده الله فاحص الكلى والقلوب. ولن يكون الدين أو الإيمان حقيقيا إلا إذا تمتع المرء بالحرية التامة في اعتناقهما أو نكرانهما. هذا هو التحدي الذي نسعى به إلى الاستمرار في البحث عن مشيئة الله وإطاعتها.